فصل: تفسير الآيات (35- 43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الأولى:
ما وجه تعلق الآية بما قبلها؟ نقول لما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم ونسبوه إلى الكهانة والجنون والشعر وبرأه الله من ذلك، ذكر الدليل على صدقه إبطالًا لتكذيبهم وبدأ بأنفسهم، كأنه يقول كيف يكذبونه وفي أنفسهم دليل صدقه لأن قوله في ثلاثة أشياء في التوحيد والحشر والرسالة ففي أنفسهم ما يعلم به صدقه، وبيانه هو أنهم خلقوا وذلك دليل التوحيد لما بينا أن في كل شيء له آية، تدل على أنه واحد، وقد بينا وجهه مرارًا فلا نعيده.
وأما الحشر فلأن الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني وإمكانه، ويدل على ما ذكرنا أن الله تعالى ختم الاستفهامات بقوله: {أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور: 43].
المسألة الثانية:
إذا كان الأمر على ما ذكرت فلم حذف قوله أما خلقوا؟ نقول: لظهور انتفاء ذلك ظهورًا لا يبقى معه للخلاف وجه، فإن قيل فلم لم يصدر بقوله أما خلقوا ويقول أم خلقوا من غير شيء؟ نقول ليعلم أن قبل هذا أمرًا منفيًا ظاهرًا، وهذا المذكور قريب منه في ظهور البطلان فإن قيل قوله: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء} أيضًا ظاهر البطلان، لأنهم علموا أنهم مخلوقون من تراب وماء ونطفة، نقول الأول أظهر في البطلان لأن كونهم غير مخلوقين أمر يكون مدعيه منكرًا للضرورة فمنكره منكر لأمر ضروري.
المسألة الثالثة:
ما المراد من قوله تعالى: {مِنْ غَيْرِ شَىْء} نقول فيه وجوه المنقول منها أنهم خلقوا من غير خالق وقيل إنهم خلقوا لا لشيء عبثًا، وقيل إنهم خلقوا من غير أب وأم، ويحتمل أن يقال أم خلقوا من غير شيء، أي ألم يخلقوا من تراب أو من ماء، ودليله قوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ} [المرسلات: 20] ويحتمل أن يقال الاستفهام الثاني ليس بمعنى النفي بل هو بمعنى الإثبات قال الله تعالى: {ءأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون} [الواقعة: 59] و{ءأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزرعون} [الواقعة: 64] {ءأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المنشئون} [الواقعة: 72] كل ذلك في الأول منفي وفي الثاني مثبت كذلك هاهنا قال الله تعالى: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء} أي الصادق هو هذا الثاني حينئذ، وهذا كما في قوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا}.
[الإنسان: 1] فإن قيل كيف يكون ذلك الإثبات والآدمي خلق من تراب؟ نقول والتراب خلق من غير شيء، فالإنسان إذا نظرت إلى خلقه وأسندت النظر إلى ابتداء أمره وجدته خلق من غير شيء، أو نقول المراد أم خلقوا من غير شيء مذكور أو معتبر وهو الماء المهين.
المسألة الرابعة:
ما الوجه في ذكر الأمور الثلاثة التي في الآية؟ نقول هي أمور مرتبة كل واحد منها يمنع القول بالوحدانية والحشر فاستفهم بها، وقال أما خلقوا أصلًا، ولذلك ينكرون القول بالتوحيد لانتفاء الإيجاد وهو الخلق، وينكرون الحشر لانتفاء الخلق الأول أم خلقوا من غير شيء، أي أم يقولون بأنهم خلقوا لا لشيء فلا إعادة، كما قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثًا} [المؤمنون: 115].
وعلى قولنا إن المراد خلقوا لا من تراب ولا من ماء فله وجه ظاهر، وهو أن الخلق إذا لم يكن من شيء بل يكون إيداعيًا يخفي كونه مخلوقًا على بعض الأغبياء، ولهذا قال بعضهم السماء رفع اتفاقًا ووجد من غير خالق وأما الإنسان الذي يكون أولًا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحمًا وعظمًا لا يتمكن أحد من إنكاره بعد مشاهدة تغير أحواله فقال تعالى: {أَمْ خَلَقُواْ} بحيث يخفى عليهم وجه خلقهم بأن خلقوا ابتداء من غير سبق حالة عليهم يكونون فيها ترابًا ولا ماء ولا نطفة ليس كذلك بل هم كانوا شيئًا من تلك الأشياء خلقوا منه خلقًا، فما خلقوا من غير شيء حتى ينكروا الوحدانية ولهذا قال تعالى: {يَخْلُقُكُمْ في بُطُونِ أمهاتكم خَلْقًا مّن بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6] ولهذا أكثر الله من قوله: {خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} [الإنسان: 2] وقوله: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ} [المرسلات: 20] يتناول الأمرين المذكورين في هذا الموضع لأن قوله: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء} يحتمل أن يكون نفي المجموع بنفي الخلق فيكون كأنه قال: أخلقتم لا من ماء، وعلى قول من قال المراد منه أم خلقوا من غير شيء، أي من غير خالق ففيه ترتيب حسن أيضًا وذلك لأن نفي الصانع، إما أن يكون بنفي كون العالم مخلوقًا فلا يكون ممكنًا، وإما أن يكون ممكنًا لكن الممكن لا يكون محتاجًا فيقع الممكن من غير مؤثر وكلاهما محال.
وأما قوله تعالى: {أَمْ هُمُ الخالقون} فمعناه أهم الخالقون للخلق فيعجز الخالق بكثرة العمل، فإن دأب الإنسان أنه يعيا بالخلق، فما قولهم أما خلقوا فلا يثبت لهم إله ألبتة، أم خلقوا وخفي عليهم وجه الخلق أم جعلوا الخالق مثلهم فنسبوا إليه العجز، ومثل قوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول} [ق: 15] هذا بالنسبة إلى الحشر وأما بالنسبة إلى التوحيد فهو رد عليهم حيث قالوا الأمور مختلفة واختلاف الآثار يدل على اختلاف المؤثرات وقالوا {أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا} [ص: 5] فقال تعالى: {أَمْ هُمُ الخالقون} حيث لا يقدر الخباز على الخياطة والخياط على البناء وكل واحد يشغله شأن عن شأن.
{أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)}.
وفيه وجوه: أحدها: ما اختاره الزمخشري وهو أنهم لا يوقنون بأنهم خلقوا وهو حينئذ في معنى قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقولنَّ الله} [لقمان: 25] أي هم معترفون بأنه خلق الله وليس خلق أنفسهم وثانيها: المراد بل لا يوقنون بأن الله واحد وتقديره ليس الأمر كذلك أي ما خلقوا وإنما لا يوقنون بوحدة الله وثالثها: لا يوقنون أصلًا من غير ذكر مفعول يقال فلان ليس بمؤمن وفلان ليس بكافر لبيان مذهبه وإن لم ينو مفعولًا، وكذلك قول القائل فلان يؤذي ويؤدي لبيان ما فيه لا مع القصد إلى ذكر مفعول، وحينئذ يكون تقديره أنهم ما خلقوا السموات والأرض ولا يوقنون بهذه الدلائل، بل لا يوقنون أصلًا وإن جئتهم بكل آية، يدل عليه قوله تعالى بعد ذلك {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفًا مّنَ السماء ساقطا يَقولواْ سحاب مَّرْكُومٌ} [الطور: 44] وهذه الآية إشارة إلى دليل الآفاق، وقوله من قبل {أَمْ خُلقُواْ} [الطور: 35] دليل الأنفس.
{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)}.
وفيه وجوه أحدها: المراد من الخزائن خزائن الرحمة ثانيها: خزائن الغيب ثالثها: أنه إشارة إلى الأسرار الإلهية المخفية عن الأعيان رابعها: خزائن المخلوقات التي لم يرها الإنسان ولم يسمع بها، وهذه الوجوه الأول والثاني منقول، والثالث والرابع مستنبط، وقوله تعالى: {أَمْ هُمُ المسيطرون} تتمة للرد عليهم، وذلك لأنه لما قال: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ} إشارة إلى أنهم ليسوا بخزنة (رحمة) الله فيعلموا خزائن الله، وليس بمجرد انتفاء كونهم خزنة ينتفي العلم لجواز أن يكون مشرفًا على الخزانة، فإن العلم بالخزائن عند الخازن والكاتب في الخزانة، فقال لستم بخزنة ولا بكتبة الخزانة المسلطين عليها، ولا يبعد تفسير المسيطرين بكتبة الخزانة، لأن التركيب يدل على السطر وهو يستعمل في الكتاب، وقيل المسيطر المسلط وقرئ بالصاد، وكذلك في كثير من السيئات التي مع الطاء، كما في قوله تعالى: {بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] و(قد قرئ) مصيطر.
{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)}.
وهو أيضًا تتميم للدليل، فإن من لا يكون خازنًا ولا كاتبًا قد يطلع على الأمر بالسماع من الخازن أو الكاتب، فقال أنتم لستم بخزنة ولا كتبة ولا اجتمعتم بهم، لأنهم ملائكة ولا صعود لكم إليهم، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
المقصود نفي الصعود، ولا يلزم من نفي السلم لهم نفي الصعود، فما الجواب عنه؟ نقول النفي أبلغ من نفي الصعود، وهو نفي الاستماع وآخر الآية شامل للكل، قال تعالى: {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بسلطان مُّبِينٍ}.
المسألة الثانية:
السلم لا يستمع فيه، وإنما يستمع عليه، فما الجواب؟ نقول من وجهين: أحدهما: ما ذكره الزمخشري أن المراد {يَسْتَمِعُونَ} صاعدين فيه وثانيهما: ما ذكره الواحدي أن في بمعنى على، كما في قوله تعالى: {ولأصَلّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النخل} [طه: 71] أي جذوع النخل، وكلاهما ضعيف لما فيه من الإضمار والتغيير.
المسألة الثالثة:
لم ترك ذكر مفعول {يَسْتَمِعُونَ} وماذا هو؟ نقول فيه وجوه أحدها: المستمع هو الوحي، أي هل لهم سلم يستمعون فيه الوحي ثانيها: يستمعون ما يقولون من أنه شاعر، وأن لله شريكًا، وأن الحشر لا يكون ثالثها: ترك المفعول رأسًا، كأنه يقول: هل لهم قوة الاستماع من السماء حتى يعلموا أنه ليس برسول، وكلامه ليس بمرسل.
المسألة الرابعة:
قال: {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم} ولم يقل فليأتوا، كما قال تعالى: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ} [الطور: 34] نقول طلب منهم ما يكون أهون على تقدير صدقهم، ليكون اجتماعهم عليه أدل على بطلان قولهم، فقال هناك {فَلْيَأْتُواْ} أي اجتمعوا عليه وتعاونوا، وأتوا بمثله، فإن ذلك عند الاجتماع أهون، وأما الارتقاء في السلم بالاجتماع (فإنه) متعذر لأنه لا يرتقي إلا واحد بعد واحد، ولا يحصل في الدرجة العليا إلا واحد فقال: {فَلْيَأْتِ} ذلك الواحد الذي كان أشد رقيًا بما سمعه.
المسألة الخامسة:
قوله: {بسلطان مُّبِينٍ} ما المراد به؟ نقول هو إشارة إلى لطيفة، وهي أنه لو طلب منهم ما سمعوه، وقيل لهم {فليأت مستمعهم} بما سمع لكان لواحد أن يقول: أنا سمعت كذا وكذا فيفتري كذبًا، فقال لا بل الواجب أن يأتي بدليل يدل عليه.
{أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)}.
إشارة إلى نفي الشرك، وفساد ما يقولون بطريق آخر، وهو أن المتصرف إنما يحتاج إلى الشريك لعجزه، والله قادر فلا شريك له، فإنهم قالوا: نحن لا نجعل هذه الأصنام وغيرها شركاء، وإنما نعظمها لأنها بنات الله، فقال تعالى: كيف تجعلون لله البنات، وخلق البنات والبنين إنما كان لجواز الفناء على الشخص، ولولا التوالد لانقطع النسل وارتفع الأصل، من غير أن يقوم مقامه الفصل، فقدر الله التوالد، ولهذا لا يكون في الجنة ولادة، لأن الدار دار البقاء، لا موت فيها للآباء، حتى تقام العمارة بحدوث الأبناء.
إذا ثبت هذا فالولد إنما يكون في صورة إمكان فناء الأب، ولهذا قال تعالى في أوائل سورة آل عمران {الحى القيوم} [آل عمران: 2] أي حي لا يموت فيحتاج إلى ولد يرثه، وهو قيوم لا يتغير ولا يضعف، فيفتقر إلى ولد ليقوم مقامه، لأنه ورد في نصارى نجران.
ثم إن الله تعالى بيّن هذا بأبلغ الوجوه، وقال إنهم يجعلون له بنات، ويجعلون لأنفسهم بنين، مع أن جعل البنات لهم أولى، وذلك لأن كثير البنات تعين عل كثرة الأولاد، لأن الإناث الكثيرة يمكن منهن الولادة بأولاد كثيرة من واحد.
وأما الذكور الكثيرة لا يمكن منهم إحبال أنثى واحدة بأولاد، ألا ترى أن الغنم لا يذبح منها الإناث إلا نادرًا، وذلك لما ثبت أن إبقاء النوع بالأنثى أنفع نظرًا إلى التكثير، فقال تعالى: أنا القيوم الذي لا فناء لي، ولا حاجة لي في بقاء النوع في حدوث الشخص، وأنتم معرضون للموت العاجل، وبقاء العالم بالإناث أكثر، وتتبرءون منهن والله تعالى مستغن عن ذلك وتجعلون له البنات، وعلى هذا فما تقدم كان إشارة إلى نفي الشريك نظرًا إلى أنه لابتداء لله، وهذا إشارة إلى نفي الشريك نظرًا إلى أنه لا فناء له، فإن قيل كيف وقع لهم نسبة البنات إلى الله تعالى مع أن هذا أمر في غاية القبح لا يخفى على عاقل، والقوم كان لهم العقول التي هي مناط التكليف، وذلك القدر كاف في العلم بفساد هذا القول؟ نقول ذلك القول دعاهم إليه اتباع العقل، وعدم اعتبار النقل، ومذهبهم في ذلك مذهب الفلاسفة حيث يقولون يجب اتباع العقل الصريح، ويقولون النقل بمعزل لا يتبع إلا إذا وافق العقل، وإذا وافق فلا اعتبار للنقل، لأن العقل هناك كاف، ثم قالوا الوالد يسمى والدًا، لأنه سبب وجود الولد، ولهذا يقال: إذا ظهر شيء من شيء هذا تولد من ذلك، فيقولون الحمى تتولد من عفونة الخلط، فقالوا الله تعالى سبب وجود الملائكة سببًا واجبًا لا اختيار له فسموه بالوالد، ولم يلتفتوا إلى وجوب تنزيه الله في تسميته بذلك عن التسمية بما يوهم النقص، ووجوب الاقتصار في أسمائه على الأسماء الحسنى التي ورد بها الشرع لعدم اعتبارهم النقل، فقالوا يجوز إطلاق الأسماء المجازية والحقيقية على الله تعالى وصفاته، فسموه عاشقًا ومعشوقًا، وسموه أبًا ووالدًا، ولم يسموه ابنًا ولا مولودًا باتفاقهم، وذلك ضلالة.
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40)}.
وجه التعلق هو أن المشركين لما اطرحوا الشرع واتبعوا ما ظنوه عقلًا، وسموا الموجود بعد العدم مولودًا ومتولدًا، والموجد والدًا لزمهم الكفر بسببه والإشراك، فقال لهم ما الذي يحملكم على اطراح الشرع، وترك اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل ذلك لطلبه منكم شيئًا فما كان يسعهم أن يقولوا نعم، فلم يبق لهم إلا أن يقولوا لا، فنقول لهم: كيف اتبعتم قول الفلسفي الذي يسوغ لكم الزور وما يوجب الاستخفاف بجانب الله تعالى لفظًا إن لم يكن معنى كما تقولون، ولا تتبعون الذي يأمركم بالعدل في المعنى والإحسان في اللفظ، ويقول لكم اتبعوا المعنى الحق الواضح واستعملوا اللفظ الحسن المؤدب؟ وهذا في غاية الحسن من التفسير ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
ما الفائدة في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: {أم تسألهم} ولم يقل أم يسألون أجرًا كما قال تعالى: {أَمْ يَقولونَ} [يونس: 38] وقال تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا} [الطور: 42] إلى غير ذلك؟ نقول فيه فائدتان:
إحداهما: تسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنهم لما امتنعوا من الاستماع واستنكفوا من الاتباع صعب على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له ربه أنت أتيت بما عليك فلا يضيق صدرك حيث لم يؤمنوا فأنت غير ملوم، وإنما كنت تلام لو كنت طلبت منهم أجرًا فهل طلبت ذلك فأثقلهم؟ لا فلا حرج عليك إذًا.
ثانيهما: أنه لو قال أم يسألون لزم نفي أجر مطلقًا وليس كذلك، وذلك لأنهم كانوا يشركون ويطالبون بالأجر من رؤسائهم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أنت لا تسألهم أجرًا فهم لا يتبعونك وغيرك يسألهم وهم يسألون ويتبعون السائلين وهذا غاية الضلال.
المسألة الثانية:
إن قال قائل ألزمت أن تبين أن أم لا تقع إلا متوسطة حقيقة أو تقديرًا فكيف ذلك ههنا؟ نقول كأنه تعالى يقول أتهديهم لوجه الله أم تسألهم أجرًا، وترك الأول لعدم وقوع الإنكار عليه كما قلنا في قوله: {أَمْ لَهُ البنات} [الطور: 39] إن المقدار هو واحد أم له البنات، وترك ذكر الأول لعدم وقوع الإنكار عليه من الله تعالى وكونهم قائلين بأنه لا يريد وجه الله تعالى، وإنما يريد الرياسة والأجر في الدنيا.
المسألة الثالثة:
هل في خصوص قوله تعالى: {أَجْرًا} فائدة لا توجد في غيره لو قال أم تسألهم شيئًا أو مالًا أو غير ذلك؟ نقول نعم، وقد تقدم القول مني أن كل لفظ في القرآن فيه فائدة وإن كنا لا نعلمها، والذي يظهر هاهنا أن ذلك إشارة إلى أن ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فيه مصلحتهم وذلك لأن الأجر لا يطلب إلا عند فعل شيء يفيد المطلوب منه الأجر فقال: أنت أتيتهم بما لو طلبت عليه أجرًا وعلموا كمال ما في دعوتك من المنفعة لهم وبهم، لأتوك بجميع أموالهم ولفدوك بأنفسهم، ومع هذا لا تطلب منهم أجرًا، ولو قال شيئًا أو مالًا لما حصلت هذه الفائدة، والله أعلم.